بنو موسى بن شاكر المنجّم وعِلم الحيل

قبل أن تظهر خشبات المسرح الحديثة، كان هناك نوع آخر من «السحرة» في العالم الإسلامي: مهندسون يصنعون حيلًا ميكانيكية تُمزِج بين الدهشة والمنفعة. من أبرز هؤلاء بنو موسى بن شاكر؛ ثلاثة أشقّاء عاشوا في بغداد العبّاسية، وتركوا لنا واحدًا من أهم كتب الهندسة الميكانيكية في التاريخ: كتاب الحِيَل.

من هم بنو موسى؟

بنو موسى هم الإخوة محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر، نشأوا أيتامًا بعد وفاة والدهم، فتكفّل بهم الخليفة العباسي المأمون، وألحقهم بـ بيت الحكمة في بغداد؛ مركز الترجمة والبحث العلمي في ذلك العصر. هناك تعلّموا الرياضيات، والفلك، والهندسة، وشاركوا في حركة ترجمة الكتب اليونانية والسريانية، ثم تجاوزوا ما ترجموه بابتكاراتهم الخاصة.

لم يكونوا مجرّد قرّاء لتراث اليونان؛ بل طوّروا مدرسة كاملة في الميكانيكا والهندسة التطبيقية، جعلت اسمهم حاضرًا في كتب العلماء اللاحقين مثل الجزري وغيره.

كتاب الحيل… موسوعة العجائب النافعة

أشهر أعمالهم هو كتاب الحيل (The Book of Ingenious Devices)، الذي أُلّف في منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي تقريبًا. يصف الكتاب نحو مئة جهاز ميكانيكي، كثير منها أوتوماتيكي، مع رسومات وشرح دقيق لكيفية العمل.

كلمة «الحِيَل» هنا لا تعني الخدعة السحرية فقط، بل الآلية الماكرة التي تستغل قوانين الهواء والماء والجاذبية لصنع تأثير ذكي؛ ومن هنا جاء وصفها أحيانًا في المصادر اللاحقة بـ «الحيل النافعة» لأنها تجمع بين الإبهار والفائدة العملية.

ماذا نجد في كتاب الحيل؟

من بين الأجهزة التي وصفوها:

• نوافير أوتوماتيكية يتغيّر شكل انسياب الماء فيها بين «درع مائي» ورذاذ ناعم، باستخدام صمامات وحجيرات هواء داخلية.

• مصابيح ذاتية التشغيل والتغذية تضبط مستوى الزيت تلقائيًا بحيث يبقى اللهب ثابتًا.

• آلات موسيقية ذاتية العزف مثل آلة «الناي الأوتوماتيكي» التي تُعد من أوائل الآلات القابلة للبرمجة في التاريخ؛ إذ يمكن تغيير طريقة العزف بتعديل فتحات الهواء.

• أدوات إنقاذ وعمل ميداني مثل مخلب ميكانيكي لاستخراج الأشياء من قاع الأنهار، ومنفاخ لإخراج الهواء الفاسد من الآبار كي يتمكن العمال من النزول بأمان.

• أنظمة توزيع مياه ساخنة وباردة تعمل بتتابع زمني تلقائي؛ تخرج فيها المياه من أفواه تماثيل صغيرة في مشهد يبدو «سحريًا» للمشاهد العادي، لكنه مبني على موازين ضغط دقيقة.

• 
  

هذه الأمثلة تكشف لنا أننا لسنا أمام ألعاب بهلوانية، بل أمام مختبر هندسة سيطرة وتحكّم قبل ظهور هذا المصطلح بقرون؛ ففي أجهزتهم نرى بذور ما نسمّيه اليوم:

• الصمامات المخروطية،

• أنظمة التغذية الراجعة (Feedback)،

• وآليات الأمان التي تُوقف الجهاز إذا حدث خلل.

• 
  

من «حيلة» إلى علم هندسي

ما يهمّنا في سياق عُجاب هو زاوية النظر التي قدّمها بنو موسى:

• الحيلة ليست مجرّد خداع بصري، بل فن تصميم تجربة يتحكم فيها المهندس بكل قطرة ماء وكل نفخة هواء.

• المتفرّج يرى معجزة صغيرة، بينما في الخلفية تعمل منظومة من الرافعات والصمامات والمستويات بدقة مذهلة.

بهذا المعنى، يمكن النظر إلى بنو موسى كـ أسلاف مبكّرين لفناني الإبهار المعاصرين؛ فهم صنعوا أجهزة تبدو «ساحرة» للعين، لكنها تقوم في جوهرها على علم صارم.

أثرهم في التاريخ… ومن بغداد إلى العالم

كتب بنو موسى لم تبقَ حبيسة خزائن بغداد؛ بل انتشرت في العالم الإسلامي، ويُحتمل أن أفكارهم عبرت إلى أوروبا عبر الأندلس والترجمات اللاتينية.

بعدهم بقرون، جاء الجزري في ديار بكر ليؤلف كتابه الشهير «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل»، وهو امتداد واضح لخط المدرسة نفسها؛ مدرسة ترى في الحيل فنًّا نافعًا يربط بين العلم والتطبيق ودهشة العين.

الكثير من المؤرخين المعاصرين يعتبرون أن تاريخ الهندسة الميكانيكية والروبوتات لا يمكن أن يُكتب دون المرور عبر بنو موسى؛ فهم من أوائل من طوّروا:

• آليات قريبة من الكرنك (crankshaft)،

• وصمّموا أنظمة للتحكم في مستوى السوائل،

• وجرّبوا فكرة «الآلة المبرمجة» في الناي الأوتوماتيكي.

  
  

ماذا تعني لنا «الحيل النافعة» اليوم؟

في مشروع مثل عُجاب، حيث نعيد إحياء فنون الحيل الأدائية العربية، تعطينا تجربة بنو موسى ثلاث رسائل مهمّة:

1. الجسر بين العلم والعجبلا تعارض بين أن تكون الحيلة قائمة على معادلات دقيقة، وأن تُقدَّم للجمهور كحلم صغير أو مشهد سحري. العلم هنا ليس نقيضًا للدهشة، بل صانعها.

2. المنفعة جزء من الجمالأجهزة بنو موسى كانت تُستخدم لضبط المياه، أو تسهيل العمل، أو تحسين الإضاءة، ومع ذلك صُمّمت ليكون لها طابع مسرحي: تماثيل تصبّ الماء، نوافير تتغيّر أشكالها، آلات تعزف وحدها. هذا المزج بين الوظيفة والجمال نموذج يلهم كل من يصمّم تجارب ترفيهية اليوم.

3. التراث كمنجم للأفكار الجديدةحين يقرأ فنان حيل معاصر كتاب الحيل، يمكنه أن يستلهم من تلك الأفكار القديمة روتينات مسرحية جديدة:

   • نافورة تتحول إلى جزء من عرض ذهني،

   • آلة موسيقية أوتوماتيكية تُستحضر على المسرح،

   • أو حتى استعارة رمزية: جهاز قديم يُستخدم كمدخل لحكاية عن العلاقة بين الإنسان والآلة.

     
     

خاتمة

بنو موسى بن شاكر ليسوا مجرد أسماء في حاشية كتب التاريخ؛ هم روّاد مبكّرون لـ علم الحيل النافعة الذي يقف على الحدّ الفاصل بين الهندسة والسحر، بين المختبر والمسرح.

عندما نعيد اليوم بناء هوية عربية لفن الحيل الأدائية، فإن العودة إلى أعمالهم ليست حنينًا للماضي فحسب، بل خطوة نحو مستقبلٍ يرى في كل جهاز ميكانيكي احتمالًا لحكاية، وفي كل معادلة هندسية بذرةَ مشهدٍ مدهش على خشبة عُجاب.